إسلاميات

ما معنى قوله تعالى زبـ,ـر الحديد فى سورة الكهف ؟

يقصُّ علينا القرآن الكريم في سورة الكهف قصة ذلك البناء الحصين الذي شيده ذو القرنين ليحمي قوماً مستضعفين من عدوان يأجوج ومأجوج. وتأتي الآيات الكريمة واصفةً عملية البناء بدقة هندسية مذهلة، يقول تعالى: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً * فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً}.

في خواطره التفسيرية، يتناول الشيخ محمد متولي الشعراوي -رحمة الله عليه- هذه الآيات بعين المدقّق، مستخرجاً منها دروساً في القيادة والإدارة والعلم.

يبدأ الشيخ الشعراوي تفسيره بالإشارة إلى حقيقة مهمة غالباً ما تُغفل: لم يكن ذو القرنين رحّالةً منعزلاً، بل كان قائداً لمشروع حضاري متكامل. فقد مكَّنه الله تعالى من أسباب القوة المادية والبشرية، وكان بحوزته رجال وآلات وموارد.

والسؤال الذي يطرحه الشعراوي: لماذا طلب ذو القرنين من القوم أن يعينوه ويشاركوه العمل، مع أنه كان يملك من الإمكانات ما يمكنه من إنهاء المهمة دون حاجتهم؟

يجيب الشعراوي بأن في هذا منهجاً تربوياً حكيماً، حيث:

  • إشراك الأمة في بنائها: أراد ذو القرنين أن يدرِّب القوم ويعلّمهم، فالحكمة ليست في إنجاز المهمة فحسب، بل في نقل المعرفة والمهارة.

  • ترسيخ مبدأ التعاون: بطلَبِه المساعدة “أعينوني بقوة”، يؤسس لثقافة العمل الجماعي والتكافل الاجتماعي في مواجهة التحديات.

  • تطبيقاً للعدالة الإلهية: يستشهد الشعراوي بقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا}، مؤكداً أن الله لا يكلّف الإنسان فوق طاقته، ولكن عليه أن يستغل كل ما آتاه من طاقة. فما دام القوم يمتلكون القوة، كان من العدل والحكمة أن يستخدموها.

يحلّل الشعراوي أوامر ذو القرنين الثلاثة التي تشكل خطة هندسية محكمة:

  1. “آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ”:

    • “زُبَرَ الْحَدِيدِ” تعني قطع الحديد الكبيرة الضخمة، ومفردها “زُبْرة”. فلم يكن الحديد على شكل مسامير أو ألواح رقيقة، بل كان كتلًاً ضخمة تُشكِّل الهيكل الأساسي للسد.

  2. “حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا”:

    • “الصَّدَفَيْنِ” كما يوضح الشعراوي يعنيان الجانبين، وهما جبلان متقابلان شكّلا الفجوة التي كان يأتي منها العدوان. فساوى بينهما بالبناء، أي بنى حائطين بين الجبلين حتى تساوى ارتفاعهما وامتلأت الفجوة.

    • “قَالَ انفُخُوا” هو الأمر بإشعال النار في قطع الحديد الضخمة باستخدام المنافيخ لرفع درجة حرارتها إلى الحد الذي تصبح فيه شبه سائلة ومترابطة.

  3. “حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً”:

    • “قِطْراً” هو النحاس المذاب. هنا تأتي المرحلة الحاسمة: صبُّ النحاس المصهور على الحديد الملتهب.

ويشبّه الشعراوي هذه التقنية بأعظم ما نعرفه اليوم في البناء، فيقول: إنها تشبه تماماً البناء بالحديد والخرسانة (البيتون المسلح) في عصرنا. فالحديد يمنح الهيكل قوة الشد والصلابة، بينما يملأ النحاس المذاب كل الفراغات والمسام، ليعطي:

  • المناعة ضد الاختراق: “فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ” – أي أن يتسلقوه ويعلوه.

  • المناعة ضد النقب: “وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً” – أي أن يحدثوا فيه ثغرة أو خرقاً، وذلك لأن المزيج المتجانس من الحديد والنحاس أصبح كتلة واحدة لا مفككة.

الدلالات والمعجزات.. بين اللغة والعلم

ينتقل الشعراوي إلى عمق الإعجاز في التعبير القرآني:

  • “فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ”: يستخدم القرآن فعل “اسْطَاعُوا” الدال على محاولة بذل الجهد والوسع في التسلق والعلو دون جدوى.

  • “وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً”: بينما يستخدم “اسْتَطَاعُوا” في سياق النقب، مما قد يشير إلى أن محاولة النقب كانت أصلاً مستحيلة حتى من حيث المبدأ والإمكانية.

كما يلفت النظر إلى أن السد لم يكن مجرد جدار، بل كان بناءً هندسياً عالي التقنية، يجمع بين خواص معدني الحديد (القوة) والنحاس (الليونة وسهولة الصب والملء)، مما أنتج مادة مركبة فائقة الصلابة والأملس، كانت بمثابة تقنية متطورة في زمانها.

الخاتمة: دروس خالدة من قصة السد

لا تنتهي قصة سد ذو القرنين عند كونه معجزة مادية في الماضي، بل هي تحمل رسائل للإنسان في كل عصر:

  • رسالة في القيادة: القائد الحقيقي هو من يبني ويعلّم ويشرك، لا أن ينفرد بالعمل.

  • رسالة في التعامل مع النعم: يجب أن نستعمل ما وهبنا الله من قوة وعلم وموارد في الخير والعمران ودرء المفاسد.

  • رسالة في التخطيط: النجاح يحتاج إلى خطة محكمة، تبدأ بتحديد المواد (“زبر الحديد”)، ثم التشكيل (“ساوى بين الصدفين”)، ثم المعالجة الحرارية (“انفخوا”)، وأخيراً الإنهاء والتسديد (“أفرغ عليه قطراً”).

وهكذا، تتحول الآيات من مجرد رواية تاريخية إلى منهج حياة متكامل، يوضحه لنا الشيخ الشعراوي بعبقرية تأويلية فذة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى