من هو الصحابي الذي وصفه النبي بأنه يشبه السيد المسيح عليه السلام ؟
في سجل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم تبرز شخصيات كان لها أثر عميق في مسيرة الدعوة الإسلامية، ومن هؤلاء صحابي جليل جمع بين النسب الرفيع، والحكمة، والبطولة الفذة التي ختمت بالشهادة. إنه عروة بن مسعود الثقفي، سيد وزعيم قبيلة ثقيف، الذي تحول من مبعوث لقريش إلى سفير للإسلام، واستشهد وهو يدعو قومه إلى الله.
النشأة والمنزلة قبل الإسلام:
نشأ عروة بن مسعود في بيئة سيادة وقيادة، حيث كان سيدًا وزعيمًا لقبيلة ثقيف، بل إن منزلته امتدت لتشمل قيس عيلان بأسرها. وقد ورث هذه المكانة عن أبيه، مسعود بن معتب، الذي قاد تحالف قيس عيلان في “حرب الفجار” ضد قريش وكنانة.
وقد شهد عروة هذه الحروب وهو صغير، مما شكل لديه خبرة مبكرة في شؤون القبائل والصراعات، ووطد مكانته كأحد وجوه العرب البارزين وكريماً في قومه.
دوره المحوري في صلح الحديبية:
قبل إسلامه، برز عروة كشخصية دبلوماسية محايدة وموثوقة. فقد اختارته قريش ليكون رسولاً ومفاوضًا منها إلى النبي صلى الله عليه وسلم أثناء مفاوضات صلح الحديبية. وفي هذا الموقف أظهر حكمة وبصيرة نادرة، حيث استمع إلى رسول الله وأقنع زعماء قريش بالاستماع إليه وطلب العمرة،
قائلاً لهم كلمات تدل على فطنته: “والله لقد وفدت على الملوك وكسرى وقيصر والنجاشي، والله ما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمد محمداً”. كانت هذه الشهادة من رجل محنك نقطة فاصلة في تسهيل توقيع الصلح التاريخي.
إسلامه وهمة الدعوة العالية:
بعد إسلامه، انقلبت همة عروة من زعامة القبيلة إلى زعامة الدعوة إلى الله. وقد روى ابن إسحاق في سيرته أن عروة أدرك النبي صلى الله عليه وسلم بعد انصرافه من الطائف وأعلن إسلامه. ولم يتردد لحظة في طلب العودة إلى قومه ليدعوهم إلى الإسلام، رغم تحذير النبي له بقوله: “إن فعلت فإنهم قاتلوك”.
لكن ثقة عروة بمكانته في قومه كانت كبيرة، حيث أجاب: “يا رسول الله، أنا أحب إليهم من أبصارهم”. فخرج متحملاً مسؤولية الدعوة، ممثلاً لأعلى درجات الإيمان والتضحية.
استشهاده: مشهد التضحية والفداء:
لم يخيب ظن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما إن أعلن عروة دعوته لقومه حتى واجهتهم بالرفض والغضب والسب. لكن ذلك لم يثنِ ع resolveه. ففي فجر اليوم التالي، صعد إلى سطح غرفة له وأذن للصلاة معلناً عن دينه بكل شجاعة.
فما كان من قومه إلا أن أمطروه بوابل من السهام من كل اتجاه، فأصابته منها رمية قاتلة. وحين سُئل وهو في سكرات الموت عن رأيه في دمه، كانت إجابته خلاصة إيمانه: “كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إليَّ، فليس في إلا ما في الشهداء… فادفنوني معهم”. ليدفن مع شهداء الإسلام في مشهد مؤثر.
تشبيه النبي له وعلو منزلته:
أكرم النبي صلى الله عليه وسلم ذكرى عروة بتشبيهين عظيمين يوضحان مكانته:
-
شبهه بسيدنا عيسى عليه السلام: فقد قال صلى الله عليه وسلم: “رأيت عيسى بن مريم، فإذا أقرب مَنْ رأيت به شبهًا عروة بن مسعود”. بل جاء في روايات أخرى صحيحة، كما في صحيح مسلم، أنه صلى الله عليه وسلم شبّه ثلاثة من أمته فقال: “وعُروة بن مسعود الثّقَفيّ يُشْبِهُ عيسى بن مريم”.
-
شبهه بصاحب يس: فقال صلى الله عليه وسلم معلقاً على استشهاده: “مَثَلُ عروة في قومه مَثَلُ صاحب ياسين، دعا قومه إلى الله فقتلوه”. وهذا تشبيه يضعه في مصاف أولئك الدعاة الأبطال الذين قضوا شهداء في سبيل دعوتهم.
خاتمة: عبرة وعظة:
قصة عروة بن مسعود الثقفي ليست مجرد سيرة صحابي، بل هي نموذج للإيمان الذي يتخطى كل روابط الجاهلية، وللشجاعة التي تواجه الباطل بالحق، وللتضحية التي تقدم الدين على النسب والمنصب. من مبعوث لقريش إلى سفير للإسلام، ومن زعيم قبيلة إلى شهيد في سبيل الله، ليكون قدوة في الثبات على المبدأ حتى آخر نفس.





