شاب سوري عاد الى سوريا وافتتح مطعم
كانت رياح الحرب القاسية قد اقتلعت محمود من جذوره في حلب، ودفعت به لاجئاً إلى تركيا. هناك، عمل لسنوات طويلة في مطاعم إسطنبول، بدأَ غسّاً للأطباق، وتعلم أصول الطهي على يد أفضل الطهاة، حتى أصبح طاهياً ماهراً. لكن قلبه ظل معلقاً في وطنه، يحلم باليوم الذي يعود فيه.
بعد سنوات، وعندما هدأت الأوضاع قليلاً في جزء من البلاد، قرر محمود العودة. لم يكن بحوزته سوى مدخراته البسيطة وشغفه الكبير بتقديم الطعام الشهي. عاد إلى حلب، لكنه لم يجد المدينة التي يحبها، بل وجد أنقاضاً ووجوهاً منهكة تحمل هموم العيش.
في قلب تلك الخراب، قرر محمود أن يفتتح مطعماً صغيراً. لم يكن مطعماً عادياً، فقد علق لافتة كبيرة كتب عليها بفخر: “وجبة كاملة بـ 20 ليرة تركية فقط!”. كان السعر صادماً للجميع، بل ومستحيلاً في زمنٍ ارتفعت فيه الأسعار إلى عنان السماء. الوجبة كانت تتكون من طبق رئيسي (كبة أو محاشي أو دجاج)، وسلطة طازجة، وكوب من الشراب، وخبز ساخن.
انتشر الخبر كالنار في الهشيم. طوابير طويلة من الناس بدأت تتشكل أمام مطعم محمود منذ الساعات الأولى للصباح. كانوا جميعاً، من العمال البسطاء، والأرامل، والأيتام، والعائلات التي أنهكها الفقر، يأتون لتناول وجبة ساخنة ومغذية لم يكن بمقدورهم تحمل ثمنها في أي مكان آخر.
لم يكن الأمر مجرد طعام رخيص، بل كان طعاماً لذيذاً بجودة عالية، يقدم باحترام وابتسامة دافئة من محمود ومساعديه. أصبح المطعم واحة أمل في وسط اليأس.
لكن هذا النجاح لم يمر دون أن يلفت انتباه الشرطة المحلية. كيف يمكن لمطعم أن يبيع بهذه الأسعار الزهيدة ويستمر؟ شكك البعض بأنه ربما يحصل على مكونات مهربة أو أن خلفه أجندة خفية. ذات ظهيرة، بينما كان محمود يخدم زبائنه، حضر عدد من رجال الشرطة إلى المطعم واستدعوه إلى المركز للاستفسار.
في الغرفة المغلقة، جلس الضابط المسؤول ينظر إلى محمود بحدة.
“يا محمود، عملك ناجح جداً، والجميع يتحدث عنك. لكن لدينا بعض الاستفسارات. كيف يمكنك تقديم طعام بهذه الجودة بسعر 20 ليرة فقط؟ هذا لا يغطي حتى ثمن المكونات! هل تحصل على بضائع مهربة؟ أم أنك تهدف إلى إفلاس المطاعم الأخرى؟ يجب أن تخبرنا بالحقيقة.”
تناول محمود نفساً عميقاً، ونظر إلى الضابط بعينين صادقتين مليئتين بالحكمة والألم.
“سيدي الضابط،” بدأ كلامه بهدوء. “أنا لا أبيع الطعام.. أنا أبيع كرامتي.”
صمتت الغرفة. ثم تابع محمود: “الـ 20 ليرة ليست ثمناً للوجبة، بل هي ثمن كرامة الإنسان. أنا أعرف مذلّة الجوع، وأعرف شعور الأب الذي لا يستطيع إطعام أولاده. الـ 20 ليرة تجعل الزبون يشعر أنه دفع ثمن وجبته، فيأكلها مرفوع الرأس، لا كصدقة أو فضلة من أحد. أنا أربح منها قوت يومي، وأربح رضا ربي، وأربح ابتسامة طفل شبعان. هذا هو ربحِي الحقيقي.”
ساد الصمت في الغرفة مرة أخرى، لكن هذه المرة كان صمتاً مختلفاً، صمتاً من الاحترام والتقدير. نظر الضابط إلى محمود، ثم نظر إلى الأرض، خجلاً من شكوكه. وقف ومصافحاً إياه باحترام.
“اعذرنا يا محمود. لقد أخطأنا في حقك. استمر في عملك، ونحن معك.”
خرج محمود من مركز الشرطة، وعاد إلى مطعمه، حيث كان الناس ينتظرونه. لم يتوقف عن عمله أبداً، لأنه فهم شيئاً عميقاً:الأمر لا يتعلق ب رفع سعر,لكن الحفاظ على كرامة الإنسان في لقمة عيشه. وأصبح مطعمه ليس مجرد مكان للأكل، بل أصبح رمزاً للعطاء والكرامة في زمن صعب.