منوعات
بعد مرور 46 عام هكذا أصبح شكل ريتشارد ميلر والأيتام الصغار
الحب يصنع الإيقونات في حياتنا
في الثانية والثلاثين من عمره، توفت زوجة ريتشارد ميلر بعد مرض عضـ.ال. وبعد مرور سنتين، وفي عام 1979 كان منزل ميلر يزداد صمتاً وظلاماً، وتتردد فيه صدى ضحكات حبيبته وأحلامهما بإنجاب أطفال كثيرين.
يجلس ريتشارد وحيداً على طاولة المطبخ تحت وهج أصفر لفقاعات من الأمل، يحدق في ورق الحائط المتقشر، بينما تدق الساعة دقاتها مع مرور الوقت الذي لا يشعر بمروره ولا وجوده.
حثّه أصدقاؤه على الزواج مرة أخرى، وبدء حياة جديدة، وملء الفراغ. لكن ريتشارد لم يكن مهتمًا بالبدء من جديد. كان مُقتنعًا بوعدٍ همسته له زوجته “آبي” على سريرها في المستشفى: “لا تَدَعْ حبّنا يموت معي، دعه يذهب إلى مكانٍ ما.”

دفعه هذا الوعد إلى الأمام، رغم أنه لم يكن يدري إلى أين سيقوده، حتى حصل فجأة،ً عندما تعطّلت شاحنته القديمة بالقرب من دار رعاية أيتام على أطراف المدينة. جذبه إلى المبنى صوت بكاء مكتوم، نحو ممرٍّ مُظلم. في غرفةٍ ضيقة، اصطفت صفوفٌ من أسرة الأطفال جنبًا إلى جنب. بجانبهن كانت هناك فتيات صغيرات – جميعهن ذوات بشرة داكنة، بعيون واسعة الجبين، شاحبات بأذرع هشة.

لم تكن الصـ.رخات متناثرة، بل كانت متعددة الطبقات – أنين، وشكوى وصـ.راخ، شكّلا معًا ترنيمة حزينة. تجمّد ريتشارد من رؤية نظراتهن نحوه.
لفتت فتاة صغيرة نظره. وشرحت له المشرفة عليهن بهدوء كيف أن الفتيات اجتمعن معًا، على الدرجات في منتصف الليل، ملفوفات في نفس الغطاء. وقالت بنبرة يأس: “يأتي الناس راغبين في التبني، لكن لا أحد يتبناهن. لذلك سنضطر إلى تفريقهن في عدة دور”.

طعـ.نته مفردة “فراق” و “تفريق” كالسكيـ.ن، فكر ريتشارد في تضرّعات زوجته “أبي”، التي كانت ترى أن العائلة لا تُربط بالد م بل بالاختيار. انقـ.بضت نفسه وتلعثم لسانه وهو يقول للمشرفة: “ماذا لو أخذهم جميعًا؟”
ضحكت المربية وهتفت باستغراب: “جميعهم؟ سيدي، لا أحد سيربي أطفالًا من دون مأوى”. لكن ريتشارد لم يسمع اعتراضاتها. اقترب من أسرّة الأطفال، وحدقت به إحداهن بنظرات فـ.زع، مدّت أخرى يدها، وارتسمت ابتسامات على وجوه الأخريات. انفتح السبيل أمامه ليحمل مسؤوليتهن ، ويتحوّل فراغه إلى ما هو أثقل. وفجأة نطق بكلمة حازمة واحدة:”سآخذهم”.
أشعـ.ل هذا القرار حـ.ربًا روتينية في المعاملات الورقية. وصفه الأخصائيون الاجتماعيون بأنه متهـ.ور. واعتبره الأقارب مجرد أحمـ.ق. همس الجيران خلف ظهره: ما فائدة رجل أبيض مع أطفال سـ.ود؟ تمتم البعض بأشياء أبـ.شع أقلّها إنه مريض. لكن ريتشارد رفض الاستسلام.
باع شاحنته، ومجوهرات “آبي”، وتوسل ليمنحوه نوبات عمل إضافية في المصنع، من أجل شراء لوازم تسعة أطفال دفعة واحدة.
أصلح سقف وأرضية المنزل لتناسب أطفال بهذا العدد وبنى أسرّتهن بيديه وصار يغسل ملابسهن ويرضعهن ويعدّ لهن الطعام الذي كان يزرع أغلبه في فناء منزله الخلفي، وحافظ على درجة حرارة ثابتة في المنزل، بجمعه الحطب باستمرار.
تعلم أي تهويدة تهدئ كلّ طفل. درّب نفسه على تجديل شعرهن بضفائر. سهر الليالي، يلتقط أنفاسه في الظلام، حينما تمرض إحداهن.
حكم عليه العالم الخارجي بقسـ.وة. همست الأمهات في المدرسة بشكوك. حدق به الغرباء في محلات البقالة.
وكان يسمع عبارات مثل: “ستندم على هذا”. لكن الندم لم يأتِ قط. بل جاء أول مرة ضحك فيها الجميع على المسرح، وملأوا المنزل بالموسيقى. وجاءت أيامٌ قضتها العواصف، فكان كالدر ع يحميهن. وجاءت أعياد ميلاد بالكيك والعصائر والزهور والألعاب والفساتين الجديدة والهدايا وكان الجميع سعداء.
بالنسبة لريتشارد، فقد كنّ جميعهن بناته. كلٌّ منهن كَبُرت في شخصيتها الخاصة: سارة بضحكتها العالية، وراعوث بقبضتها الخجولة على قميصه، ونعومي وإستير بغـ.اراتهما الشقية على الكعك، وليا بابتسامتها، ومريم بقوتها الهادئة، وهابا، وراشيل، ودبورا، كانوا منفصلين عن بعضهم البعض ويملؤون المنزل بالثرثرة دائمًا.
كان الأمر سهلًا دائمًا. وجسده منهكًا من نـ.وبات العمل المتواصلة، لكنه لم يُظهر اليأس أبدًا. بالنسبة لبناته، كان قويًا، وهذا الإيمان منحه القوة. معًا، صمدوا أمام المحبطين ، مؤكدين أن الحبّ الحقيقي، كان أعلى من الأحكام.
بحلول أواخر التسعينيات، شيب شعره، وظهره، وكبرت الفتيات تدريجيًا مع دخولهن إلى الجامعة. عاد المنزل إلى الهدوء، لكن ريتشارد أدرك أن الصمت قد تغير. لم يكن فراغًا، بل كان مُرضيًا.
في الليلة التي غادرت فيها ابنته الأخيرة، جلس وحيدًا مع صورة مؤطرة مع زوجته، بينما كان الأطفال الصغار يتلألأون كاللؤلؤ على شريط، وهمس لصورة زوجته: “وفيت بوعدي يا آبي”.
مرت عقود. وازدهرت العائلة – معلمات وفنانات ومهندسات ووأمهات. بنوا حياتهن، لكنهم كانوا يعودون دائمًا إلى منزلهم لقضاء العطلات، ويملؤونه بالدفء القديم.
في عام 2025 ، وبعد نحو 46 عامًا، جلس ريتشارد نحيلًا، لكنه متكئ على كرسي بذراعين كبير. حوله وقفت نساءٌ بفساتين كريمية اللون، تعلقت أيديهن بكتفيه، ووجوههن تتوهج فخرًا. التقطت الكاميرات صورًا، وأعلنت العناوين الرئيسية: في عام 1979 ، تبنى رجل أبيض فتيات سـ.وداوات. انظروا إليهن الآن.
لكن بالنسبة لريتشارد، الأطفال الذين طال انتظارهم، أصبحوا نساءً يُعجب بهم العالم.
قفزت غريس وهمست: “أبي، لقد فعلتها. لقد حافظت على تماسكنا.”
ارتجفت شفتا ريتشارد بابتسامة. همس: “لا، لقد فعلناها. الحب فعلها.”
لأول مرة منذ عقود، انسكبت دموعه على خديه.
لقد وفى بوعده الذي ازدهر ليصبح إرثًا.





