الاخبار

كنوز الذهب في حلب

في سوريا التي أنهكتها سنوات من الحرب والقمع والفقر، يخوض المواطنون مغامرة جديدة وغير مسبوقة: البحث عن الكنوز المدفونة باستخدام أجهزة الكشف عن المعادن. هذا التحول الدراماتيكي من الخوف تحت حكم الأسد إلى المغامرة في ظل الفراغ الأمني الحالي، يرسم صورة صارخة لليأس والأمل الذي يعيشه السوريون.

تحرر من القمع وولادة ظاهرة جديدة
يشير التقرير إلى أن سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر المثل نقطة تحول حاسمة. لأول مرة منذ عقود، يشعر الناس بالحرية الكافية للتجول ليلاً حاملين هذه الأجهزة، التي كانت محظورة في السابق بشكل صارم. ظهور “وجوه جديدة” تحمل أجهزة تومض في ظلام دمشق ليس مجرد مشهد غريب، بل هو رمز لانحسار قبضة المخابرات والأمن التي كانت تخيم على كل تفصيل من الحياة اليومية.

الاقتصاد المنهار: الدافع الرئيسي وراء الحمّى
وراء هذه “الحمّى” سبب اقتصادي واضح ومُلمَس. مع معاناة 90% من السوريين تحت خط الفقر وانهيار العملة وارتفاع البطالة إلى مستويات قياسية، لم يعد البحث عن الذهب هواية أو مغامرة، بل أصبح وسيلة يائسة للبقاء على قيد الحياة. إنه استثمار الأخير للمدخرات القليلة المتبقية على أمل العثور على كنز يغير الحياة.

الجذور التاريخية والأساطير المحفزة
الإيمان بوجود كنوز مدفونة ليس وليد اللحظة، بل هو متجذر بعمق في الوعي الجمعي السوري. تقول الروايات المتوارثة إن سوريا، مهداً للحضارات ومركزاً لطرق التجارة القديمة مثل طريق الحرير، يجب أن تكون أرضها مليئة بكنوز الرومان والعثمانيين وغيرهم. هذه “الميثولوجيا الشعبية”، كما يصفها أستاذ التاريخ عمرو العظم، توفر الأساس الثقافي الذي تغذيه الآن الحاجة الاقتصادية الملحة.

سوق مزدهرة لأجهزة الكشف والاستغلال التجاري
لم تتردد القطاعات التجارية في استغلال هذه الفرصة الذهبية. انتشرت متاجر متخصصة في بيع أجهزة الكشف في دمشق، تتراوح أسعارها من المئات إلى عشرات الآلاف من الدولارات، وتستهدف كل الشرائح، بل وحتى الأطفال بأجهزة ملونة. كما انتقل التسويق إلى منصات مثل فيسبوك، حيث تروج أجهزة متطورة تزعم قدرتها على التصوير ثلاثي الأبعاد وتحديد العمق، بل وأجهزة مقاومة للماء للغوص بحثاً عن الذهب.

** بين الواقع والخيال: شائعات الكنوز والبيع المزيف**
ساهمت الشائعات غير المؤكدة، مثل قصة مجموعة أصبحت “ثريّة بين ليلة وضحاها”، في إشعال الخيال الجماعي. لكن الخبراء يشككون في هذه الروايات، مشيرين إلى أن معظم ما يتم العثور عليه إما مسروق من متاحف وقصور مسؤولين سابقين، أو أنه مزيف يُباع للسذج والمستثمرين اليائسين. السوق السوداء للآثار مزدهرة، لكنها خطيرة ومليئة بالاحتيال.

مخاطر ومخاوف: من الفراغ الأمني إلى العصابات المحلية
لا تخلو هذه المغامرة من مخاطر جسيمة. يقول أبو وائل إن الصيادين يتعرضون لهجمات من قبل سكان محليين أو عصابات تسطو على أي اكتشافات. كما أن الحفر العشوائي يشكل خطراً على السلامة الشخصية وعلى المواقع الأثرية الحقيقية، التي يتم تدميرها دون وعي.

خيبة الأمل والوهم: الجانب المظلم من الحمّى
قصة أبو وائل، صائد الكنوز منذ 40 عاماً، تقدم الجانب المأساوي والمخيب للآمال. اعترافه بأنه لم يعثر على أي كنز، واتهامه لبائعي الأجهزة بالسعي وراء “وهم”، يكشف النقاب عن دوامة من اليأس والاستغلال. اللجوء إلى “السحرة” و “العارفين” مثل “الشيخ الأحمر” لقراءة الرموز، يظهر مدى الاستعداد للتصديق بأي شيء مقابل بصيص أمل.

خاتمة: كنز قد يكلف أكثر مما يُعطي
في النهاية، “حمّى الذهب” في سوريا هي أكثر من مجرد ظاهرة غريبة؛ إنها مرآة تعكس مأساة شعب يحاول النهوض من تحت ركام الحرب والقمع، حتى لو كان ذلك بمجرفة في يد وأمل بعيد في الأخرى. ولكن كما يحذر المثل السوري الذي استشهد به أبو وائل: “من يلقى ذهباً، يفقد عقله”، مما يشير إلى أن الثمن الاجتماعي والنفسي لهذه الحمّى قد يكون أعلى من أي كنز وهمي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى