تخيل حجم الألم في الصورة
بعد 44 يومًا من الغياب المؤلم والانتظار القاسي، انتُشلت ثلاث جماجم ومجموعة من العظام من تحت أنقاض منزل مدمر في حي الشجاعية شرق غزة. هذه البقايا كانت كل ما تبقى من الصحفية الفلسطينية مروة مسلم وشقيقيها.
هذا المشهد المروع يُلخّص بوحشية قسوة الحرب على المدنيين العزل والصحفيين على حد سواء. رحلت مروة، التي كرّست صوتها لنقل المعاناة عبر أثير إذاعة الشباب المحلية، بعد أن حُرمت من أبسط حقوق الإنسان: الإنقاذ من تحت الركام، لتصبح رمزًا للظلم المزدوج.

الحياة قبل الموت.. صوت غزة الدافئ
مروة، الصحفية اليافعة التي لم تتجاوز السابعة والعشرين ربيعًا، عُرفت بـ ابتسامتها الدافئة التي لا تفارق محياها، وبرامجها الاجتماعية الصباحية التي لامست قلوب الآلاف من سكان غزة.
كانت تنقل معاناتهم وهمومهم اليومية بصدق نادر وشفافية مؤثرة. لم تكن تقرأ الأخبار فحسب، بل كانت تحيا قصص الناس معهم، مؤمنةً بأن الإعلام رسالة إنسانية سامية ونبض حياة قبل أن يكون مجرد مهنة.
الجريمة المزدوجة.. القصف ثم منع الإنقاذ
انقطع صوتها فجأة. فقد الاتصال بها ومعها شقيقاها، معتز ومنتصر، عقب قصف عنيف طال منزل العائلة. حاول الجيران والناشطون يائسين إنقاذهم، وناشدوا العالم بأسره، ولكن دون جدوى.
قوات الاحتلال منعت طواقم الدفاع المدني والإسعاف من الوصول إلى الموقع، لتبقى مروة وشقيقاها محاصرين تحت الركام، تصارع الألم والجراح وحدها، حتى أسلمت روحها. كانت هذه جريمة مزدوجة: القصف أولاً، ثم منع الإنقاذ ثانيًا.
العمود الذي سقط.. تحملت المسؤولية كاملة
لم تكن مروة مجرد صحفية، بل كانت عمود البيت وسنده. بعد أن اضطر والداها للسفر إلى مصر للعلاج قبل الحرب، حملت على عاتقها الصغير مسؤولية رعاية شقيقيها وإدارة شؤون المنزل. ومع اندلاع العدوان، فقدت مصدر رزقها، لكن إرادتها لم تنكسر.
واجهت ظروف الحرب القاسية بلا معيل أو مورد، رفضت النزوح من منزلها في حي التفاح، مفضلة البقاء مع جيرانها في مدينتها. كانت الأم والأخت والأب في آن واحد، proving شجاعة نادرة في زمن الذل.
ذكراها خالدة.. كما رآها زملاؤها
يتذكرها زملاؤها ليس كضحية، بل كإنسانة محبّة، متواضعة، وقوية. يقول زميلها الصحفي سوار أبو قمر: “لم يكن هذا موسم الحصاد يا مروة… فلماذا رحلتِ؟!”. ويصفها بأنها كانت “تشبه الأشياء الأصيلة التي لا تتكرر، والتي حين تغيب، تترك فراغًا لا يُملأ”.
أما الصحفي عماد أبو شاويش فيؤكد على قوة شخصيتها وذكائها المتقد، واصفًا إياها بالمثل الفلسطيني “أخت رجال“، مشيرًا إلى متانتها وتزنها رغم صغر سنها.
استهداف ممنهج.. رمز لكل الصحفيين الشهداء
استشهاد مروة مسلم لم يكن مجرد رقم يضاف إلى قوائم الشهداء الطويلة. رحيلها أعاد تسليط الضوء على حجم الاستهداف الممنهج للصحفيين في غزة، الذين أصبحوا على خط النار ليكشفوا الحقيقة للعالم.
هي مثال للصحفي الذي يرفض التخلي عن رسالته أو مغادرة وطنه، حتى تحت وطأة القصف والحصار. رحلت مروة، لكنها صارت شاهدة وشهيدة، تذكيرًا أبديًا بأن الكلمة قد تُغتال، لكن صدى الحقيقة لا يموت.





