القصة الحقيقية لفيلم واحد من الناس
يُعد فيلم “واحد من الناس” (2006) من أبرز الأفلام في مسيرة الفنان كريم عبد العزيز وأكثرها جرأة. لم يكن مجرد فيلم ترفيهي، بل كان عملاً ناقداً اجتماعياً وسرداً درامياً قوياً لمعاناة الإنسان البسيط أمام جبروت السلطة والثروة. الفيلم، من تأليف الكاتب الشهير بلال فضل، لم يخترع قصته من الفراغ، بل استقاها من واقع مأساوي هز الرأي العام المصري في مطلع الألفية: قضية أركاديا.
محتــويات المقــال
القصة الفنية: محمود البسيط في مواجهة أباطرة الشر
يدور الفيلم حول “محمود” (كريم عبد العزيز)، شاب بسيط يعمل حارس أمن في جراج للسيارات. تعيش شخصيته حياة هادئة ومتواضعة، إلى أن يصبح شاهد عيان على جريمة قتل يرتكبها أبناء النخبة الثرية في الجراج.
عندما يقرر محمود قول الحقيقة، تتحول حياته إلى كابوس؛ حيث يتم تلفيق التهم له ويدخل السجن ظلماً. بعد خروجه، ليس أمامه سوى خيار واحد: الانتقام من النظام الفاسد وأولئك الذين دمروا حياته، متحولاً من ضحية إلى شخص يحاول استعادة كرامته المغتصبة.
القصة الواقعية: جريمة “بومو دورو” في مول أركاديا
في 12 أبريل 2001، وفي الطابق الأرضي من مول “أركاديا” الشهير بوسط القاهرة، وقعت الحادثة الحقيقية التي ألهمت الفيلم. داخل ملهى “بومو دورو” الليلي الحصري، شبّ شجار عنيف بين رجلَيْ الأعمال الشابين:
-
محمود محيي الدين روحي (37 عاماً)، صاحب شركة ليموزين لتأجير السيارات الفاخرة.
-
عمر جمال الدين الهواري، صاحب شركة استيراد وتصدير.
كان سبب الشجار، كما ورد في التحقيقات، خلاف على فتاة وتنافس على ملاعقتها على خشبة الرقص أثناء حفل صاخب. تصاعد الخلاف وانتهى بطعن محمود روحي حتى الموت بسكين كان بحوزة الهواري.
عالم منعزل: حيث لا يدخل إلا “أولاد الذوات”
كانت تفاصيل مكان الجريمة جزءاً من غرابتها. نادي “بومو دورو” لم يكن ملهى عادياً، بل كان صالة حصرية لا يسمح بدخولها إلا لأعضاء نادي “استايل” الخاص، والذي كان رسم العضوية فيه 20 ألف جنيه (مبلغ ضخم جداً في ذلك الوقت).
كان المكان محروساً بطريقة خاصة، حيث مُنع حراس الأمن العاديون للمول (وعددهم 150 حارساً) من الاقتراب من تلك الصالة، التي كانت تُدار وكأنها دولة داخل الدولة، مما سهل إخفاء الكثير من تفاصيل الجريمة في بدايتها.
التلاعب بالعدالة: صراع الفيلة
شهدت القضية ما يمكن وصفه بـ “صراع الفيلة”، حيث انقسم الطرفان إلى معسكرين قويين:
-
عائلة الروحي (الضحية): سعت بكل قوة لأخذ الثأر والمطالبة بالقصاص.
-
عائلة الهواري (المتهم): عملت على استخدام نفوذها وثروتها لتزوير الأدلة وترهيب الشهود وإدارة لعبة قانونية معقدة لتبرئة ابنهم.
وقد كشفت التحقيقات لاحقاً عن محاولات منهجية من قبل عائلة الهواري لإرهاب وإقناع الشهود بتغيير شهاداتهم، حيث قدمت إحدى الشاهدات شهادة حاسمة أفادت بأنهم حاولوا ترهيبها بشتى الطرق. في النهاية، وبعد معركة قضائية طويلة، حُكم على عمر الهواري بالأشغال الشاقة المؤبدة.
الرؤية الفنية: كيف حوّل بلال فضل الواقع إلى فيلم؟
لم يكرر المؤلف بلال فضل القصة الحرفية، بل استلهم فكرتها الجوهرية: كيف يدفع البسطاء ثمن صراعات الأغنياء؟
-
تحويل البطل: جعل البطل الرئيسي ليس أحد أطراف الصراع الأصليين، بل شاهد عيان بسيط (حارس الجراج) هو من يدفع الثمن ويُجَرَّم بدلاً منهم.
-
تعميم الفكرة: حول القصة من حادثة محددة إلى نقد أوسع للفساد الاجتماعي وإساءة استخدام النفوذ والثروة.
-
تسليط الضوء: نقل العدسة من صراع “الفيلة” إلى الأرض، ليرينا تأثير هذا الصراع المدمر على حياة “واحد من الناس” العاديين الذين لا حول لهم ولا قوة.
الخاتمة: فيلم خالد كوثيقة على العصر
يظل فيلم “واحد من الناس” أكثر من مجرد عمل فني؛ إنه وثيقة درامية على فترة زمنية، وتذكير بقوة السينما في النقد الاجتماعي وطرح الأسئلة المحرجة. لقد نجح في تحويل قضية إعلامية ساخنة إلى قصة إنسانية خالدة تتحدث عن الظلم والكرامة والانتقام، مما يضمن له مكانة خاصة في تاريخ السينما المصرية.